الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال السدّي: من خالف حكم الله وتركه عامدًا وتجاوزه وهو يعلم، فهو من الكافرين حقًا، ويحمل هذا على الجحود، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال: ابن عباس.واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر، وقالوا: هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافرًا.وأجيبوا: بأنها نزلت في اليهود، فتكون مختصة بهم.وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.ومنهم من قال: تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل، وهذا ضعيف، لأنّ من شرط وهي عام، وزيادة ما قدر زيادة في النقص، وهو غير جائز.وقيل: المراد كفر النعمة، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين.وقال ابن الأنباري: فعل فعلًا يضاهي أفعال الكفار، وضعف بأنه عدول عن الظاهر.وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: ما أنزل صيغة عموم، فالمعنى: من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق.وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم.وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدل على سقوطه هذا.وقال عكرمة: إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله، إلا أنه أتى بما يضاد، فهو حاكم بما أنزل الله، لكنه تارك له، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. اهـ.
.من فوائد أبي السعود في الآية: قال عليه الرحمة:{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة} كلام مستأنفٌ سيق لبيان علوِّ شأن التوراةِ ووجوبِ مراعاة أحكامِها وأنها لم تزل مَرْعيّةً فيما بين الأنبياء ومَنْ يقتدي بهم كابرًا عن كابر، مقبولةً لكل أحد من الحكام والمتحاكمين محفوظةً عن المخالفة والتبديل تحقيقًا لما وُصف به المحرِّفون من عدم إيمانهم بها، وتقريرًا لكفرهم وظلمهم، وقوله تعالى: {فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} حالٌ من التوراة، فإن ما فيها من الشرائع والأحكامِ من حيث إرشادُها للناس إلى الحق الذي لا مَحيدَ عنه هدىً ومن حيث إظهارُها وكشفُها نورُ ما استَبْهَم من الأحكام وما يتعلَّق بها من الأمور المستورةِ بظلمات الجهل، وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} أي أنبياءُ بني إسرائيلَ، وقيل: موسى ومَنْ بعده من الأنبياء، جملةٌ مستأنفة مبينةٌ لرِفعةِ رتبتِها وسُمُوِّ طبقتها، وقد جوَّز كونَه حالًا من التوراة فيكون حالًا مقدرة، أي يحكُمون بأحكامها ويحمِلون الناس عليها، وبه تمسك مَنْ ذهب إلى أن شريعةَ مَنْ قبلَنا شريعةٌ لنا ما لم تُنْسَخْ، وتقديمُ الجارِّ والمجرورِ على الفاعل لما مر مرارًا من الاعتناء بشأن المقدَّم والتشويق إلى المؤخَّر، ولأن في المؤخَّر وما يتعلق به نوعَ طولٍ ربما يُخِلّ تقديمُه بتجاوُب أطرافِ النظم الكريم، وقوله تعالى: {الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح دون التخصيص والتوضيح، لكن لا للقصد إلى مدحهم بذلك حقيقة، فإن النبوة أعظم من الإسلام قطعًا، فيكون وصفُهم به بعد وصفِهم بها تنزلًا من الأعلى إلى الأدنى، بل لتنويه شأن الصفة فإن إبرازَ وصفٍ في معرِض مدح العظماء مُنبىءٌ عن عِظَم قدرْ الوصْفِ لا محالة كما في وصف الأنبياءِ بالصلاحِ ووصفِ الملائكة بالإيمان عليهم السلام، ولذلك قيل: أوصافُ الأشراف أشرافُ الأوصاف، وفيه رفع لشأن المسلمين وتعريضٌ باليهود وأنهم بمعزِل من الإسلام، والاقتداءُ بدين الأنبياء عليهم السلام لاسيما مع ملاحظة ما وُصفوا به في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} وهو متعلق بـ {يحكم} أي يحكمون فيما بينهم، واللام إما لبيان اختصاصِ الحُكم بهم أعمَّ من أن يكون لهم أو عليهم، كأنه قيل: لأجل الذين هادوا، وإما للإيذان بنفعه للمحكوم عليه أيضًا بإسقاط التبعة عنه، وإما للإشعار بكمال رضاهم به وانقيادِهم له كأنه أمرٌ نافع لكلا الفريقين، ففيه تعريضٌ بالمحرِّفين، وقيل: التقديرُ للذين هادوا وعليهم فحُذِفَ ما حُذف لدلالة ما ذُكر عليه، وقيل: هو متعلق بـ {أنزلنا} وقيل: بـ {هدىً ونور} وفيه فصلٌ بين المصدر ومفعولِه، وقيل: متعلق بمحذوفٍ وقع صفةً لهما أي هدى ونورٌ كائنان للذين هادوا {والربانيون والاحبار} أي الزهاد والعلماءُ من وَلَد هارونَ الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دينَ اليهود.وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: الربانيون الذين يسوسون الناسَ بالعلم ويربُّونهم بصغاره قبل كباره، والأحبارُ هم الفقهاءُ واحدُه ح2برٌ بالفتح والكسر والثاني أفصح، وهو رأي الفراء، مأخوذ من التحبير والتحسين، فإنهم يُحبِّرون العلمَ ويزينونه ويُبيِّنونه، وهو عطفٌ على {النبيون} أي هم أيضًا يحكمُون بأحكامها، وتوسيطُ المحكومِ لهم بين المعطوفين للإيذان بأن الأصلَ في الحُكم بها وحَمْلِ الناس على ما فيها هم النبيون، وإنما الربانيون والأحبارُ خلفاءُ ونوابٌ لهم في ذلك كما يُنبىء عنه قوله تعالى: {بِمَا استحفظوا} أي بالذي استُحفظوه من جهة النبيين وهو التوراة، حيث سألوهم أن يحفَظُوها من التغيير والتبديل على الإطلاق، ولا ريب في أن ذلك منهم عليهم السلام استخلافٌ لهم في إجراء أحكامِها من غير إخلالٍ بشيء منها، وفي إبهامها أولًا ثم بيانِها ثانيًا بقوله تعالى: {مِن كتاب الله} من تفخيمها وإجلالِها ذاتًا وإضافةً، وتأكيدِ إيجاب حفظِها والعملِ بما فيها ما لا يَخْفى، وإيرادُها بعنوان الكتاب للإيماء إلى إيجاب حفظِها عن التغييرِ من جهة الكتابة، والباءُ الداخلة على الموصول متعلقةٌ بـ {يحكم} لكن لا على أنها صلةٌ كالتي في قوله تعالى: {بِهَا}، ليلزَمَ تعلقُ حرفي جرٍ متحدَّيْ المعنى بفعلٍ واحد، بل على أنها سببية أي ويحكم الربانيون والأحبارُ أيضًا بسبب ما حفِظوه من كتاب الله حسْبما وصاهم به أنبياؤُهم وسألوهم أن يحفظوه، وليس المرادُ بسببيته لحكمهم مُلكَ سببيته من حيث الذاتُ بل من حيث كونُه محفوظًا، فإن تعليقَ حكمِهم بالموصول مُشعرٌ بسببية الحفظِ المترتب لا محالة على ما في حيِّز الصلة من الاستحفاظ له، وقيل: الباء صلةٌ لفعلٍ مقدر معطوفٍ على قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} عطفَ جُملةٍ على جملة، أي ويحكم الربانيون والأحبارُ بحكم كتابِ الله الذي سألهم أنبياؤهم أن يحفظوه من التغيير.{وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء} أي رُقباءَ يحمُونه من أن يحوم حولَه التغييرُ والتبديلُ بوجه من الوجوه، فتغييرُ الأسلوب لما ذُكر من المزايا، وقيل: {بما استحفظوا} بدلٌ من قوله تعالى: {بِهَا} بإعادة العامل وهو بعيد، وكذا تجويزُ كونِ الضمير في استُحفظوا للأنبياء والربانيين والأحبارِ جميعًا على أن الاستحفاظَ من جنابِ الله عز وجل أي كلفهم الله تعالى أن يحفظوه ويكونوا عليه شهداء، وقوله تعالى وتقدَّسَ: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس} خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات، وأما حكامُ المسلمين فيتناوبُهم النهْيُ بطريق الدلالة دون العبارة، والفاء لترتيبِ النهْيِ على ما فُصِّل من حال التوراة، وكونِها معتنىً بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام ومَنْ يقتدى بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملًا وحفظًا، فإن ذلك مما يوجبُ الاجتنابَ عن الإخلال بوظائف مراعاتِها والمحافظةِ عليها بأي وجهٍ كان فضلًا عن التحريف والتغيير، ولمّا كان مدارُ جراءتهم على ذلك خشيةَ ذي سلطانٍ أو رغبةً في الحظوظ الدنيوية نُهوا عن كل منهما صريحًا، أي إذا كان شأنُهما كما ذكر فلا تخشوا الناسَ كائنًا من كان واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظِها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعِهم {واخشون} في الإخلالِ بحقوقِ مراعاتها فكيف بالتعرُّض لها بسوء.{وَلاَ تَشْتَرُواْ بآياتي} الاشتراء استبدالُ السلعة بالثمن أي أخذُها بدلًا منه لا بذلُ الثمن لتحصيلها كما قيل، ثم استُعير لأخذ شيءٍ بدلًا مما كان له، عَيْنًا كان أو معنىً أخذًا منوطًا بالرغبة فيما أُخذ، والإعراضِ عما أُعطِيَ ونُبذ، كما فُصِّل في تفسير قوله تعالى: {أولئك الذين الضلالة بالهدى} فالمعنى لا تستبدلوا بآياتي التي فيها بأن تُخرجوها منها أو تتركوا العملَ بها وتأخذوا لأنفسكم بدلًا منها {ثَمَنًا قَلِيلًا} من الرِّشوة والجاهِ وسائرِ الحظوظ الدنيوية، فإنها وإن جلّت قليلةٌ مستَرْذَلةٌ في نفسها، لاسيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها، وإنما عبَّر عن المشترى الذي هو العُمدةُ في عقود المعاوضة والمقصِدُ الأصليُّ بالثمن الذي شأنه أن يكونَ وسيلةً إلى تحصيله، وأُبرزَتِ الآياتُ التي حقُّها أن يتنافسَ فيها المتنافسون في معرِض الآلات والوسائطِ حيث قُرنت بالباء التي تصحَبُ الوسائلَ إيذانًا بمبالغتهم في التعكيس بأن جَعلوا المقصِدَ الأقصى وسيلةً والوسيلةَ الأدنى مقصِدًا {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله} كائنًا من كان دون المخاطبين خاصة فإنهم مندرجون فيه اندراجًا أوليًا أي من لم يحكم بذلك مستهينًا به منكِرًا كما يقتضيه ما فعلوه من تحريف آيات الله تعالى اقتضاءً بينًا {فَأُوْلَئِكَ} إشارةٌ إلى «من»، والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد فيما سبق باعتبار لفظِها {هُمُ الكافرون} لاستهانتهم به، و{هم} إما ضميرُ الفعل أو مبتدأ وما بعده خبره، والجملة لأولئك، وقد مر تفصيلُه في مطلع سورة البقرة، والجملة تذييلٌ مقرِّرٌ لمضمون ما قبلها أبلغَ تقريرٍ، وتحذيرٌ عن الإخلال به أشدَّ تحذير حيث علّق فيه الحكمَ بالكفر بمجرد ترك الحُكْم بما أنزل الله تعالى، فكيف وقد انضم إليه الحكمُ بخلافه، لاسيما مع مباشرة ما نُهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضِعَه، وادعاءِ أنه من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلًا؟. اهـ..من فوائد الألوسي في الآية: قال رحمه الله:{إِنَّا أَنزَلْنَا التوراة} كلام مستأنف سيق لتقرير مزيد فظاعة حال أولئك اليهود ببيان علو شأن التوراة على أتم وجه {فِيهَا هُدًى} أي إرشاد للناس إلى الحق {وَنُورٌ} أي ضياء يكشف به ما تشابه عليهم وأظلم قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه.وقال الزجاج: {فِيهَا هُدًى} أي بيان للحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه النبي صلى الله عليه وسلم {وَنُورٌ} أي بيان أنّ أمر النبي عليه الصلاة والسلام حق، ولعل تعميم المهدي إليه كما في كلام ابن عباس أولى، ويندرج فيه اندراجًا أوليًا ما ذكره الزجاج من الحكم، وإطلاق النور على ما في التوراة مجاز، ولعل إطلاقه على ذلك دون إطلاقه على القرآن بناءًا على أن النور مقول بالتشكيك، وقد يقال: إن إطلاقه على ما به بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بناءًا على ما قال الزجاج باعتبار كون الأمر المبين متعلقًا بأول الأنوار الذي لولاه ما خلق الفلك الدوار صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يكون الفرق بين الإطلاقين مثل الصبح ظاهرًا، والظرف خبر مقدم، و{هُدًى} مبتدأ، والجملة حال من {التوراة} أي كائنًا فيها ذلك، وكذلك جملة {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} في قول إلا أنها حال مقدرة، والأكثرون على أنها مستأنفة مبينة لرفعة رتبة التوراة وسمو طبقتها، والمراد من النبيين من كان منهم من لدن موسى إلى عيسى عليهما الصلاة والسلام على ما رواه ابن أبي حاتم عن مقاتل، وكان بين النبيين عليهما السلام ألف نبي.وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن المراد بهم نبينا صلى الله عليه وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، وعلى هذا بنى الإستدلال بالآية من قال: إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم ينسخ، وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة، والمراد: يحكم بأحكامها النبيون.{الذين أَسْلَمُواْ} صفة أجريت على النبيين كما قيل على سبيل المدح، والظاهر لهم، ونظر فيه ابن المنير «بأن المدح إنما يكون غالبًا بالصفات الخاصة التي يتميز بها الممدوح عمن دونه، والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء ومتبعيهم كما يتناولهم، ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر على كونه رجلًا مسلمًا؛ فإن أقل متبعيه كذلك، ثم قال: فالوجه والله تعالى أعلم أن الصفة قد تذكر لتعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما تذكر تنويهًا بقدر موصوفها،...
|